فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال النبيّ صلى الله عليه وسلم رحمهما الله. وقالت عائشة: مكارم الأخلاق عشرة: صدق الحديث. وصدق البأس في طاعة الله. وإعطاء السائل. ومكافأة الصنيع. وصلة الرحم. وأداء الأمانة. والتذمم للصاحب. والتذمم للجار وقرى الضيف ورأسهن الحياء.
أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد المذكور أنشدنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، أنشدنا ابن أبي الدنيا أنشدني أبو جعفر القرشي:
كل الأمور تزول عنك وتنقضي ** إلاّ الثناء فإنه لك باق

لو أنني خُيّرتُ كل فضيلة ** ما اخترت غير مكارم الأخلاق

قال عبد الرحمن بن زيد: لما نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كيف يارب والغضب» فنزل {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ}.
فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: العفو من أخلاق الناس وأعمالهم، قاله ابن الزبير، والحسن، ومجاهد.
الثاني: خذ العفو من أموال المسلمين، وهذا قبل فرض الزكاة ثم نسخ بها، قاله الضحاك والسدي وأحد قولي ابن عباس.
والثالث: خذ العفو من المشركين، وهذا قبل فرض الجهاد، قاله ابن زيد.
{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} فيه قولان:
أحدهما: معناه بالمعروف، قاله عروة وقتادة.
والثاني: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل حين نزلت عليه هذه الآية: {خُذِ الْعَفْوَ وَأَْمُرْ بِالْعُرْفِ}: «يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا» قال: لا أدري أسأل العالم، قال: «ثُمَّ عَادَ جِبْرِيلُ فَقَالَ»: «يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك» قاله ابن زيد.
{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} فإن قيل فكيف أمر بالإعراض مع وجوب الإنكار عليهم؟
قيل: إنما أراد الإعراض عن السفهاء استهانة بهم. وهذا وإن كان خطابًا لنبيِّه عليه السلام فهو تأديب لجميع خلقه. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {خذ العفو} الآية، وصية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم جميع أمته وأخذ بجميع مكارم الأخلاق، وقال الجمهور في قوله: {خذ العفو} إن معناه اقبل نم الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عفوًا دون تكلف، فالعفو هنا الفضل والصفو الذي تهيأ دون تحرج، قاله عبد الله بن الزبير في مصنف البخاري، وقاله مجاهد وعروة، ومنه قول حاتم الطائي: [الطويل]
خذي العفو مني تستديمي مودتي ** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هذه الآية، في الأموال، وقيل هي فرض الزكاة أمر بها صلى الله عليه وسلم أن يأخذ ما سهل من أموال الناس، وعفا أي فضل وزاد من قولهم عفا النبات والشعر أي كثر، ثم نزلت الزكاة وحدودها فنسخت هذه الآية، وذكر مكي عن مجاهد أن {خذ العفو} معناه خذ الزكاة المفروضة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا شاذ، وقوله: {وأمر بالعرف} معناه بكل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: «ما هذا العرف الذي أمر به، قال: لا أدري حتى أسأل العالم، فرجع إلى ربه فسأله ثم جاءه فقال له: يا محمد هو أن تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك».
قال القاضي أبو محمد: فهذا نصب غايات والمراد فما دون هذا من فعل الخير، وقرأ عيسى الثقفي فيما ذكر أبو حاتم {بالعُرف} بضم الراء والعرْف والعرُف بمعنى المعروف، وقوله: {وأعرض عن الجاهلين} حكم مترتب محكم مستمر في الناس ما بقوا، هذا قول الجمهور من العلماء، وقال ابن زيد في قوله: {خذ العفو} إلى: {الجاهلين} إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مداراة لكفار قريش ثم نسخ ذلك بآية السيف.
قال القاضي أبو محمد: وحديث الحر بن قيس حين أدخل عمه عيينة بن حصن على عمر دليل على أنها محكمة مستمرة، لأن الحر احتج بها على عمر فقررها ووقف عندها. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {خذ العفو}.
العفو: الميسور، وقد سبق شرحه في سورة [البقرة: 219].
وفي الذي أُمر بأخذ العفو منه ثلاثة أقوال:
أحدها: أخلاق الناس، قاله ابن الزبير، والحسن، ومجاهد فيكون المعنى: إقبل الميسور من أخلاق الناس، ولا تستقص عليهم فتظهر منهم البغضاء.
والثاني: أنه المال، وفيه قولان:
أحدهما: أن المراد بعفو المال: الزكاة، قاله مجاهد في رواية الضحاك.
والثاني: أنها صدقة كانت تؤخذ قبل فرض الزكاة، ثم نُسخت بالزكاة، روي عن ابن عباس.
والثالث: أن المراد به: مساهلة المشركين والعفو عنهم، ثم نسخ بآية السيف، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: {وأمْر بالعرف} أي: بالمعروف.
وفي قوله: {وأعرض عن الجاهلين} قولان:
أحدهما: أنهم المشركون، أُمر بالإِعراض عنهم، ثم نُسخ ذلك بآية السيف.
والثاني: أنه عام فيمن جهل، أُمر بصيانة النفس عن مقابلتهم على سفههم، وإن وجب عليه الإنكار عليهم.
وهذه الآية عند الأكثرين كلها محكمة، وعند بعضهم أن وسطها محكم، وطرفيها منسوخان على ما بيَّنا. اهـ.

.قال القرطبي:

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات.
فقوله: {خُذِ العفو} دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين.
ودخل في قوله: {وَأْمُرْ بالعرف} صلةُ الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغَضّ الأبصار، والإستعداد لدار القرار.
وفي قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} الحَضُّ على التعلّق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء.
ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة.
قلت: هذه الخصال تحتاج إلى بسط، وقد جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن سليم.
قال جابر بن سليم أبو جُرَىّ: ركبت قَعودي ثم أتيت إلى مكة فطلبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنخت قعودي بباب المسجد، فدلُّوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هوجالس عليه بُرْد من صوف فيه طرائقُ حُمر؛ فقلت: السلام عليك يا رسول الله.
فقال: «وعليك السلام».
فقلت: إنّا معشر أهل البادية، قوم فينا الجفاء؛ فعلِّمني كلماتٍ ينفعني الله بها.
قال: «ادن» ثلاثًا، فدنوت فقال: «أعِد عليّ» فأعدت عليه فقال: «اتق الله ولا تحقرنّ من المعروف شيئًا وأن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تُفرِغ من دَلْوك في إناء المستسقي وإن امرؤ سبّك بما لا يعلم منك فلا تُسبّه بما تعلم فيه فإن الله جاعل لك أجرًا وعليه وِزْرًا ولا تسبّن شيئًا مما خَوّلك الله تعالى».
قال أبو جُرَى: «فوالذي نفسي بيده، ما سبَبْت بعده شاة ولا بعيرًا» أخرجه أبو بكر البزار في مسنده بمعناه.
وروى أبو سعيد المَقْبُرِيّ عن أبيه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق» وقال ابن الزبير: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس.
وروى البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير في قوله: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف} قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس.
وروى سفيان بن عُيَيْنَة عن الشعبيّ أنه قال: إن جبريل نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يا جبريل»؟ فقال: «لا أدري حتى أسأل العالم» في رواية: «لا أدري حتى أسأل ربي» فذهب فمكث ساعة ثم رجع فقال: «إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك» فنظمه بعض الشعراء فقال:
مكارم الأخلاق في ثلاثةٍ ** من كَمُلَتْ فيه فذلك الفتى

إعطاءُ مَن تحرِمه ووَصلُ مَن ** تَقْطَعُه والعفْوُ عَمّنِ اعتدى

وقال جعفر الصادق: أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم: «بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق» وقال الشاعر:
كلُّ الأمور تزول عنك وتنقضي ** إلاّ الثناء فإنه لك باقي

ولو أنني خُيِّرتُ كلّ فضيلة ** ما اخترت غير مكارم الأخلاق

وقال سهل بن عبد الله: كلّم الله موسى بطُور سَيْنَاء.
قيل له: بأيّ شيء أوصاك؟ قال: بتسعة أشياء، الخشية في السر والعلانية، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وأمرني أن أصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون نطقي ذكرًا، وصَمتِي فِكْرًا، ونظري عبرة.
قلت: وقد روي عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرني ربي بتسعٍ الإخلاص في السر والعلانية والعدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر وأن أعفو عمن ظلمني وأصل من قطعني وأعطي من حرمني وأن يكون نطقي ذكرًا وصمتي فكرًا ونظري عبرة» وقيل: المراد بقوله: {خُذِ الْعَفْوَ} أي الزكاة؛ لأنها يسير من كثير.
وفيه بعدٌ؛ لأنه من عفا إذا دَرَس.
وقد يقال: خذ العفو منه، أي لا تنقص عليه وسامحه.
وسبب النزول يردّه، والله أعلم.
فإنه لما أمره بمحاجّة المشركين دله على مكارم الأخلاق، فإنها سبب جرّ المشركين إلى الإيمان.
أي اقبل من الناس ما عفا لك من أخلاقهم وتيسر؛ تقول: أخذت حقي عَفْوًا صَفْوًا، أي سهلًا.
الثانية قوله تعالى: {وَأْمُرْ بالعرف} أي بالمعروف.
وقرأ عيسى بن عمر {العُرُف} بضمتين؛ مثل الحُلُم؛ وهما لغتان.
والعُرْف والمَعْرُوف والعَارِفَة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول، وتطمئن إليها النفوس.
قال الشاعر:
من يفعل الخير لا يَعْدَم جَوازِيَه ** لا يذهب العُرْف بين الله والناس

وقال عطاء: {وَأْمُرْ بالعرف} يعني بلا إله إلا الله.
الثالثة قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} أي إذا أقمت عليهم الحجة وأمرتهم بالمعروف فجهلوا عليك فاعرض عنهم؛ صيانة له عليهم ورفعًا لقدره عن مجاوبتهم.
وهذا وإن كان خطابًا لنبيه عليه السلام فهو تأديب لجميع خلقه.
وقال ابن زيد وعطاء: هي منسوخة بآية السيف.
وقال مجاهد وقتادة: هي مُحْكَمة؛ وهو الصحيح لما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس قال: قدم عُيَيْنَة بن حِصن بن حذيفة بن بَدْر فنزل على ابن أخيه الحرّ ابن قيس بن حِصن، وكان من النفر الذين يُدنِيهم عُمَرُ، وكان القراءُ أصحابَ مجالِس عمر ومشاورته، كُهولًا كانوا أو شُبّانًا.
فقال عُيَيْنَة لابن أخيه: يا بن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فتستأذن لي عليه.
قال: سأستأذن لك عليه؛ فاستأذن لعُيَيْنَة.
فلما دخل قال: يا بن الخطاب، والله ما تعطينا الجَزْل، ولا تحكم بيننا بالعدل! قال: فغضب عمر حتى هَمّ بأن يقع به.
فقال الحُرّ؛ يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه عليه السلام {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} وإن هذا من الجاهلين.
فوالله ما جاوزها عمرُ حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله عز وجل.
قلت: فاستعمال عمر رضي الله عنه لهذه الآية واستدلال الحر بها يدل على أنها مُحْكَمة لا منسوخة.
وكذلك استعملها الحسن بن عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنهما؛ على ما يأتي بيانه.
وإذا كان الجَفَاء على السلطان تعمُّدًا واستخفافًا بحقه فله تعزيره.
وإذا كان غير ذلك فالإعراض والصّفْح والعفو؛ كما فعل الخليفة العدل. اهـ.